ثير ما تشهده الأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية المهمة ، جدلا
مستمرا خصوصا بين الغيورين على مصالح هذه الأمة ومستقبلها . وفي أكثر من
مناسبة أثيرت بعض التخوفات عن إمكانية فشل هذه الثورات خصوصا وأن أعداءها يتربصون لها ، ويحاولون وأدها وهي في المهد .
فالتحديات التي تواجهها الثورات العربية
،والأخطار التي قد تداهمها ، تحتاج إلى وقفة لطرح أفكار وآليات وسبل عمل ,
بهدف تقوية وتحصين المكاسب التي أنجزتها هذه الثورات ‘ ولهذا فإن المعارك
التي تخوضها إن كانت شعبية أو سياسية أو عسكرية , ما هي إلا مرحلة مخاض تمر
بها الثورات بإنتظار المولود الجديد .
وهذه مرحلة لا بدّ من عبورها كي يصبح من
الممكن إرساء سفينة الحرية والديمقراطية في بحر الأمان العربي . وميزة هذه
المرحلة أنها مرحلة فصل وأنتصار . إن الثورات التي سبق وعاصرناها في
تاريخنا الحديث ، إعتمدت في الأساس على التخلص من الإستعمار وتسليم الأمور
إلى أبناء الشعب ليتقدموا في بناء الوطن القومي ، ومنح الإنسان العربي
الحرية والعزة والكرامة في وطنه .
ولكن الأمور لم تسر في هذا الإتجاه لدى
هذه الدول . فقد تكالبت قوى أجنبية وعربية على إنجازات مصر إبان حكم جمال
عبد الناصر , والذي استطاع الإنتقال من مرحلة التحرر من الإستعمار إلى
مرحلة البناء الإقتصادى ، والعمل من أجل الوحدة الوطنية والقومية لدى
الشعوب العربية .
ولكن مع وفاة الزعيم بدأت الدول تأخذ
منحاً جديدا . وبدأت تعود إلى الظهور الدولة القطرية ، والتي زعمت أنها
تحارب الإستعمار ، في حين فتحت الأبواب على مصراعيها للفساد المحلي
والإستغلال الأجنبي ، وبالتالي فقد أصبح طبيعيا في هذه الحالة أن تتحكم
الدكتاتورية بمصير الشعوب العربية ، وتعمل على تغييب وإسقاط العمل القومي
من جدول الأعمال , وفي كثير من الأحيان محاربة واضطهاد عناصره.
ولم تستطع الدولة القطرية إقناع الجماهير
العربية بضرورة وجودها ، فقد رأت هذه الجماهير فيها كيانا مناهضا لتطلعاتها
خصوصا مع بداية القرن الواحد والعشرين . فخلال فترة الأربعين سنة الأخيرة
شهد الإنسان العربي تغيير في تفكيره وتطلعاته المستقبلية . فقد سافر
الكثيرون إلى خارج الوطن العربي ، منهم للدراسة للتعليم ومنهم للعمل وآخرون
لقضاء عطل , ونتج عن ذلك إحتكاك مع الشعوب الأخرى الشيء الذي ساعد كثيرا
في تطوير الرؤية المستقبلية لهؤلاء والذين حملوها معهم عائدين إلى أوطانهم .
وأصبحت المقارنة بين معيشتهم وتفكيرهم وتطلعاتهم الحياتية تختلف عن تلك
التي يريدها لهم قادتهم .
وكان لا بدّ من وجود عامل مرئيّ على أرض
الواقع ، فكان هناك الغزو الأمريكي للعراق والذي كان من أهم أهدافه إفشال
الدولة القومية ، وتشجيع قيام الدولة القطرية المبنية على الطائفية
والعشائرية . ووجدت هذه الفكرة مرتعا خصيبا في العراق المحتل لأسباب لا
نريد الخوض بها في هذا المقال . ولكن المحتل ، رغم كل محاولات غسل الدماغ ،
والضغوط النفسية، والرشاوي المالية ، فشل في إقامة الدولة الديمقراطية
التي نادى (ولايزال ينادي ) بها . فالنمو الطائفي ، ليس فقط يتناقض مع
النمو الديمقراطي والقومي ، بل إنه يفقد أسس هذا النمو . فالدولة القطرية
لان يكتب لها النجاح إذا ما استغنت عن الأسس القومية ، وفي هذه الحالة أسس
القومية العربية والعروبة . فالقومية كما هو معروف, ليست نظرية ،بل إنها
ظاهرة حياة تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية ومصيرية مشتركة .
والمثل الثاني لوجهة النظر هذه هي أن يؤدي
الغزو الأمريكي للعراق إلى إقامة دولة إستيطانية تقوم على المواطنة وليس
على الأبعاد القومية ، وكأنها دولة مهاجرين على غرار إسرائيل والولايات
المتحدة ، واللتين لم تتطور فيهما القومية . فإسرائيل اليوم تعاني من هذا
النقص وتحاول تغطيته بالبعد الصهيوني وعن طريق دمج الدين بالقومية ، ولكنها
فشلت في صهر المهاجرين اليهود في البوتقة القومية المفتعلة . وهذا النموذج
لم يكتب له النجاح في العراق بسبب الوجود القومي القوي .
في خضم هذا التحرك ، ومحاولات بناء " شرق
أوسط جديد " يتماشى مع التطلعات الأمريكية والإسرائيلية ، فجر الشباب
العربي ثورة تونس ولحقتها مصر ، وهي تنتقل الآن بسرعة فكانت لها أصداء في
ليبيا وفي اليمن وفي البحرين وفي سورية وفي الأردن وغيرها من الدول العربية
.
وهذه الثورات جاءت في الأساس لتحقيق
الإصلاحات وإعادت البلاد إلى موقعها القومي والتاريخي ومحاربة الفساد وغسل
وصمة العار عن جبين الشعوب العربية . إنها ليست إنقلابات عسكرية هدفها
محاربة " الرجعية والإستعمار وأعوان الإستعمار " بل إن هدفها الأول هو
التخلص من الأنظمة القائمة والبدء من البداية . وهذا ليس بالأمر الهين ،
ولكنه ليس مستحيلا . فالعدو الأول الذي شخصته هذه الثورات هو النظام القائم
، فكان لا بدّ من خوض غمار صراع معه والتخلص منه حتى تستطيع الشعوب من
السيطرة أولا على مقدراتها ومصيرها ولتبني مستقبلها .
وأهم نقطة حققتها هذه الثورات هي كسر عقدة
الخوف لدى الإنسان العربي . فلم يعد الشعب يهاب الحكام ، وأخذ ينادي
برحيلهم ومحاكمتهم . كما أسقطت هذه الثورات شعار "الفزاعات" التي إستغلته (
ولا تزال ) معظم الأنظمة العربية ، والدول الإستعمارية أصحاب المصالح
الإقتصادية والإستراتيجية في المنطقة ، أنه في حالة سقوط النظام فإن قوى
التطرف الديني ، خصوصا الإخوان المسلمين ، أو ما تسمى بالقاعدة وغيرهما هي
التي ستستلم الأمور ، وتقوم بفرض دكتاتورية جديدة أكثر تطرفا من
الدكتاتوريات المتواجدة . إلا أن هذه "الفزاعات " تساقطت الواحدة تلو
الأخرى . لا الإخوان سيطروا ولا القاعدة فرشت ظلالها ، بل يمكن القول أن
هذه العناصر لم تظهرعلى الساحة كما توقّع البعض .
كما أن التغيب المرحلي ، في رأيي ،
للشعارات العروبية والقومية وشعار تحرير فلسطين ومحاربة الإستعمار وغيرها ،
لا تعني أن هذه الثورات أبتعدت عن هذا الإتجاه . فكما أسلفنا فإن الأساس
القومي هو السبيل الأمثل لتحقيق الأهداف . فالمراقب للتصريحات والمواقف
الوطنية، خصوصا من مصر ، يستطيع أن يتفاءل خيرا .
فعلى سبيل المثال مطالبة وزير الخارجية
المصري ، نبيل العربي ، بضرورة تطبيق كل بنود اتفاقيات كامب ديفيد بما فيها
البنود المتعلقة بالقضية الفلسطينية ، ودعوته لإعادة دراسة الإتفاقيات
المبرمة بين مصر وجميع الدول بما فيها إسرائيل بالنسبة لبيع الغاز الطبيعي
والبترول وغيره ، وتحذير إسرائيل من التمادي في اعتداءاتها على قطاع غزة ,
والعمل على إعادة العلاقات مع إيران وغيرها من التصريحات والمواقف يمكن
إعتبارها أنها أساس لمرحلة جديدة قد يكون لها أبعاد إيجابية ، كثيرة .
فبسبب نظام حسني مبارك وزمرته خلال
الثلاثين سنة الأخيرة ،ودعمه لمواقف إسرائيل ، والمحاولات المستمرة لمنحها
الشرعية في المنطقة دون أن تطبق أي قرار من القرارات الدولية، أو
الإتفاقيات التي وقعت عليها ، وخضوعه للمطالب الأمريكية ، كل هذا أدى إلى
مزيد من عربدت إسرائيل ، ليس فقط ضدّ الفلسطينيين ، بل وصلت أصابعها إلى
تونس والعراق ودبي ولبنان وغيرها من الدول العربية . كل هذا ليس بسبب قوتها
العسكرية فقط ، بل كون أنها كانت مقتنعة أن نظام مبارك في مصر وبعض
الأنظمة العربية الأخرى تقف إلى جانبها لسبب أو آخر وتساندها سياسيا بصورة
مباشرة أوغير مباشرة .
إذن فالمعركة التي تخوضها الشعوب العربية
في هذه المرحلة التاريخية هي معركة الإستقلال الحقيقي ، معركة لا بدّ من
خوضها ، فالعدو الذي تتحداه هذه الثورات هو العدو الحقيقي للشعوب العربية .
إنه ليس الدخيل والأجنبي ، بل قادة فاسدين مصو ، ولا زالوا ، يمصون دماء
شعوبهم، وينهبون ثرواته .
فبدون هذه المعارك النهائية ، وبدون
الإنتصار بها ، لا يمكن للشعوب العربية أن تدخل القرن الواحد والعشرين ،
ولا يمكن لها أن تسيطر على ثرواتها ومقدراتها ومصيرها . من من هذه
الإنتصارات من يتم بدون صراع عسكري عنيف كما كان الحال في تونس ومصر وفي
اليمن والبحرين وغيرها من الدول ، ومنها من يتم بالمعارك العسكرية الضارية
التي يذهب فيها آلاف الضحايا ، كما هو الحال مع معمر القذافي . ولكن لا بدّ
من خوض هذه المعارك لأنه لا يوجد سبيل آخر أمام الشعوب العربية ، وفي حالة
وقوع نكسة فستكون مؤقتة وستتكرر العملية حتى النصر الأكيد .
0 التعليقات:
إرسال تعليق