في التطور والاستنقاع ~ تماس

التطورُ سمةُ الحياة حتى وإن لم تتم الإشارة إلى الفاعلين فيه. فالمولود يتطور ويصبح طفلاً فمراهقاً فبالغاً فمراهقاً.. الخ، دون أن يكون له الخيار في هذه العملية من الانتقال من مرحلة لأخرى،

أو دون أن يعرف العوامل المؤثرة في هذا التطور. هذا إذا تُركت الأمور تجري وفق مشيئة الطبيعة دون أن يعترضها عائق من أي نوع كان. لكن حين يتدخل الإنسان في هذه العملية التطوريّة فهو – في أغلب الأحيان يسُهم في إفسادها إذا لم يكن له دراية ومعرفة دقيقة بمجريات هذه العملية. وبشكل عام فإن تَدَخُّل الإنسان «إذا اقتضت الضرورة» ومحاولته تصحيح مسارها، حسبما يعتقد، قد لا يكون التطور متسقاً مع الإيقاع العادي للطبيعة، التي لا تتعجل الانتقال من حال إلى حال، على الرغم من وجود مُحرِّض لمثل هذا الانتقال أو التحوّل: فمياه النهر أو الجدول لا تنساب رغبة منها في إحلال مياه أخرى محلها، بل لأن تضاريس الأرش تسمح بذلك، أو حينما تكون قوة تدفقها واندفاعها أقوى من قوة مقاومة الأرض لها.‏

إن عملية تطور الإنسان شبيهة إلى حد ما بعملية تطور الطبيعة «باستثناء بعض الحالات». حيّ بن يقظان لم يتطور وفقاً للقاعدة المشار إليها، بسبب تدخل عناصر أخرى في عملية تطوره خلال مرحلة معينة. أما روبنسون كريوزيه فقد خضع تطوره الفكري إلى عاملين: عوامل الطبيعة التي فُرضت عليه والتي اضطُر إلى التلاؤم معها، وضرورة تسخير موارد الطبيعة من أجل عملية التطوير الذاتي. هذه الحالة من الانسجام التطوري هي ما نحتاجه في حياتنا عموماً، وفي ظروفنا الراهنة على نحو خاص، أي الانسجام بين عوامل التطور الموضوعية والعوامل الذاتية.‏

من الأخطاء القاتلة التي يرتكبها بعض الأهل في تربية أبنائهم، عدم إدراكهم لسيرورة تطور هؤلاء الأبناء، وظنُّ بعضهم أن هذا التطور لا يمكن أن يتم «بشكل صحيح» إلا إذا انسجم مع طريقة تفكيرهم أو وفقاً لقواعدهم المعيارية «على أهميتها». وهو شأن الحاكم الذي تفاجئه نتائج العملية التطورية، بعد إهماله النظر في المراحل اللازمة والضرورية التي أدت إلى تلك النتائج وعدم قدرته على مواكبتها. فتراه مرتبكاً، وحائراً بل وعاجزاً عن التوافق مع مُحصلة التطور.‏

هل صحيح أن الأجداد لم يتركوا شيئاً إلا وقالوه أو فعلوه، وما على الأبناء أو الأحفاد سوى تمثله والعمل بمقتضياته؟ أليس في هذا حجرٌ على العقل، واعتقال للتفكير في ما يشبه الحذاء الذي كان يضعه الصينيون القدامى في أقدام بناتهم لمنع نموها؟‏

البشرية تتطور ومعها وعيها. وهذا التطور يتيح للعقل البشري السيطرة التدريجية على الاندفاعات والغرائز، ويهندسُ الحياة، بل يشذّبها ويرتقي بها لكي تكون أجمل وأرحب وأكثر اتساعاً وأنظف هواءً.‏