دخل ربيع الثورات العربية عامه الثاني ، مجسداً بذلك خياراً جديداً، هو
خيار ثورة الحرية والكرامة والقانون، الذي يمكن أن يتحول إلى مثال ونموذج
يَعُم ُالعالم العربي،
ويضع حدّاً نهائياً للدولة التسلطية العربية. و في تونس ولد ربيع الثورات
العربية هذا، ومنها أصبح يؤسس لتاريخ طريق بناء الدولة المدنية بوصفها
مهمة صعبة و شائكة في العالم العربي، الذي يفتقر للخبرة والثقافة
الديمقراطيتين.
أن تنتصر حركة النهضة الإسلامية بزعامة
الشيخ راشد الغنوشي في الانتخابات التي جرت في تونس يوم 23 أكتوبر الماضي،
في ظل كل هذه التعقيدات ، فهذا يعني ان الشعب التونسي متمسك و مناضل و عنيد
من أجل التحول الديمقراطي المنظور حاليا، كبديل لخيبة النظام السياسي
البوليسي المنهار الذي كان قائما على سلطة الحزب الشمولي الأوحد منذ
الاستقلال ،الذي احتكر سلطة القرار السياسي، و الكلمة الشعبية بأشد أنواع
القمع و الاستبداد، فضلاً عن أنه أصبح أكثر من أي وقت مضى يبحث عن شرعية
سياسية جديدة، حيث أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة، أن الرهان الحقيقي
يتمثل الآن في حركة النهضة الإسلامية لكي تكون هذه الشرعية السياسية
الجديدة.
الكل في العالم العربي، لا سيما في المشرق
العربي الخاضع بدوره لتأثير ظاهرتين مقترنتين، تفجر الدولة التسلطية ذات
البنية القسرية وغير التوافقية( مثال العراق)، وخوف النخب العلمانية و
الليبرالية و الأقليات التي ظلت محصورة سابقا كثيراً في فرصها
الإستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية ونطاق مؤسسي ثابت وصارم (نظام
الملّة)، من مجيء حركات الإسلام السياسي إلى السلطة، الكل يتساءلون عن
التطورات السياسية و الإسقاطات السياسية داخل تونس عينها، و في بقية بلدان
العالم العربي، في ضوء التأثير المحتمل لنتائج الانتخابات التونسية
الأخيرة، و على توازنات القوى السياسية داخل المجتمع التونسي ، ومدى تفاعل
مجموعة من التغيرات الداخلية التونسية مع المعطيات افقليمية في بلدان
المغرب العربي،و العالم العربي عامة.
لاتزال ظاهرة الإسلام السياسي على تنوع
حركاته و تياراته في العالمين العربي والإسلامي تشغل إهتمام الباحثين و
المفكرين بسيل من القضا يا والإشكاليات التي تتصدرها إمكانية ولادة تيار
إسلامي ديمقراطي مستنير و معتدل يستطيع التفاعل بإيجابية مع تحديات ومجريات
الواقع المعاصر و في القلب منها المسألة الديمقراطية، و ما يتفرع عنها من
أهمية الوعي بثقافة حقوق الإنسان، و دور المجتمع المدني العربي الوليد في
تحقيق الديمقراطية.
لقد سادت الحياة السياسية العربية في
الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، الرؤية الواحدية ،و منهج
المواجهة اللفظية العنيفة و الرفض الأيديولوجي الحاد للرأي الآخر.فقد
استبعدت القوى السياسية العربية على اختلاف مشاربها الفكرية و الإيديولوجية
من برامجها السياسية و ممارساتها مفاهيم "الديمقراطية البرجوازية " أو
"الديمقراطية الغربية".
وفي الواقع التاريخي العربي الذي كان يعج
بالثورات الشعبية و الإنقلابات العسكرية ، لم تشكل الديمقراطية مطلبا
شعبيا، و لم توجد قوى وشرائح اجتماعية منظمة و مؤثرة و معبأة ومهيأة نفسيا
و أيديولوجيا لكي تطالب و تكافح من أجل تطبيق المفاهيم الليبرالية..وكان
الوعي السائد لدى النخبة السياسية الصاعدة أن الديمقراطية الليبرالية
مرتبطة بالهيمنة الإمبريالية الغربية.و الحال هذه ساد في البلاد العربية
نموذج الدولة التسلطية التي وأدت الديمقراطية الليبرالية ، و هي لا تزال
طفلة تحبو.
ومنذ انتصار الثورة المحافظة في الغرب مع
مجيء تاتشر وريغان ، تبدل المناخ العالمي ، و أصبحت الديمقراطية بمفهومها
الليبرالي إيديولوجية مهيمنة و مطلبًا شعبيًا جارفاً لايمكن الوقوف بوجهه
ورفضه. ولم تسلم المنطقة العربية من شظايا هذه الأيديولوجيا التي استعمرت
المخيلة الإنسانية منذ سقوط جدار برلين و انهيار المعسكر الإشتراكي بقيادة
الإتحاد السوفياتي.
وفيما شهدت المنطقة العربية نهاية الحرب
الأيديولوجية بين الأحزاب و الحركات الإسلامية و اليسارية ، حيث أن اعتناق
فضاء الديمقراطية تطلب من التيارين الإسلامي واليساري إنهاء تحفظ كل منهما
على مشاركة التيار الآخر في اللعبة السياسية والإعتراف العلني و الصريح
بحقه المشروع في المنافسة السلمية من أجل الوصول إلى سدة الحكم ،رفضت الدول
التسلطية العربية خيار الديمقراطية التعددية ، و التخلي عن امتيازاتها و
مصالحها التي يؤمنها لهااحتكار السلطة .
في الثورات الديمقراطية الجارية في العالم
العربي، التي بدأت تسقط الدول التسلطية العربية الواحدة تلو الأخرى، انضم
تيار الإخوان المسلمين في مصر، و حركة النهضة في تونس إلى حركة الثورة التي
انطلقت من دونهما ومن دون تأييدهما، وإن كانت القاعدة الاخوانية تلحّ على
هذه المشاركة. الإخوان ترددوا في البدء: لم يكونوا يريدون الانضمام إلى
حركة شبابية لا تتبنى أية أيديولوجيا يمكن لها أن تخرج منتصرة، ولكنهم
بالمقابل كانوا يخشون التعرّض لقمع شديد في حال أخفقت هذه الحركة الشبابية.
فحركة الثورة الديمقراطية في كل من تونس و
مصرالتي استطاعت أن تذهل العالم كله بطابعها المسؤول و السلمي ، كان
مصدرها الحقيقي المجتمع المدني ، لا سيما أن هذه الثورات لم تنظمها
الأحزاب الأيديولوجية المعروفة الإسلامية أو اليسارية ، بل هي نتاج ولادة
ظاهرة جديدة، نستطيع حتى أن نضع لها تسمياتٍ جديدة مثل "مناضلي الشبكة
العنكبوتية" أو "ثورة الشبكة العنكبوتية"، لأن كل شيء يبدو ناتجاً عن
الشبكات الاجتماعية والمبادرات الفردية.
و إذا كان الإسلاميون بدؤوا جديا في
تحديد مواقفهم المعقدة من قضية الديمقراطية ،فإن هذا التعاطي الإيجابي لا
يعني أن الإسلاميين أصبحوا ديمقراطيين أو تخلوا عن تحفظاتهم العديدة عن
بعض المفاهيم في الديمقراطية الغربية.فالتيار الإسلامي الأصولي الذي فرض
نفسه أفقيا و عموديا في العالم العربي، لا يزال متحفظا على الديمقراطية
كمشروع سياسي متكامل ، وإن اختلفت مستويات التحفظ على هذا المشروع .
وبينما يعتمد النهج الديمقراطي على اعتبار
الدستور الذي تراضت عليه الأمة مرجعا نهائيا لشؤون الحكم و علاقات الحاكم
بالمحكوم، و علاقات المحكومين بعضهم ببعض وحتى طريقة تغيير الدستور وتعديله
يحتكم فيها إلى الدستور نفسه، يرى الإسلاميون الأصوليون على إختلاف
تياراتهم السلفية أن المرجعية في قضايا الأمة و الدولة للدين متمثلة في
النص الشرعي مفسرا ومنزلا على الواقع على منهج السلف الصالح.لكن التيارات
السلفية تفرق بين مبدأ المرجعية المطلقة للدستور و مبدأ القبول بصياغة
دستور حيث يوجد من بين التيارات السلفية من يقبل بمبدأ صياغة دستور
ويرفضونها آخرون.
إن مرتكزات النهج الديمقراطي تقوم على ما
يلي: إعطاء الشعب حق التشريع وصياغة القوانين والأحكام من خلال المؤسسات
المنتخبة ومن خلال الإستفتاءات الشعبية.بينما يجمع الأصوليون على أن الذي
يملك حق تفسير النصوص وتنزيلها على الواقع هم العلماء المؤهلون. كما يرى
الأصوليون أن منظومة الحريات في النهج الديمقراطي مرفوضة قطعا في بعدها
الفكري، لأن الحرية بهذا المعنى تتضمن حرية الكفر و الإلحاد أو ممارسة
ماحرمته الشريعة.
إن الصورة التي يقدمها الإسلاميون
الأصوليون عن الديمقراطية تعكس الأزمة العامة التي يعاني منها الإسلام و
الفكر الإسلامي المعاصر، و هي أزمة مرت بها المسيحية في مواجهتها للتحديات
التي طرحتها الديمقراطية الليبرالية و العلمانية. فالتحدي المركزي الذي
يواجهه الفكر الإسلامي هو مفهوم التعددية بمظاهرها المختلفة الفكرية و
الدينية و السياسية والثقافية و اللغوية و العرقية. ولايزال الفكر
الإسلامي بشكل عام يتبنى الموقف التقليدي المبني على ميراث المدارس
الفقهية والأصولية ، و هذا ما يفسر المكانة المركزية التي يوليها الفكر
السلفي للشريعة.
غير أن جماعة "الإخوان المسلمين"
والمنضوين تحت لوائها مثل حركة "النهضة" في تونس، تغيروا كثيرا، خلال
العقدين الماضيين. وكانت جماعة الإخوان المسلمين تحاول منذ سنوات إقناع
مختلف القوى السياسية المصرية أنها تمثل "إسلاما معتدلا"لطمأنة الطائفة
القبطية التي يتراوح عددها مابين 6% إلى 15 % من سكان مصر.فالخطاب السياسي
للإخوان المسلمين يتعهدون فيه للأقباط بحقوق المواطنة الكاملة، و يعلنون
تمسكهم بالتعددية و حرية الفكر و الرأي و التعبير، ويؤكدون إيمانهم بحقوق
المرأة و مكاسبها.
لقد تغيّر «الإخوان المسلمون» كثيراً. ولا
شك في أن عامل التغيير الأول هو اختبار الإخفاق ، في النجاح الظاهري
(الثورة الإسلامية في إيران) كما في الهزيمة (القمع الذي يُمارَس ضدهم في
كل مكان). بيد أن التحول التحديثي الذي حصل عند "الإخوان المسلمين " ناجم
عن عوامل عديدة ، لعل أبرزها:
الأول ، عودة الصحوة الإسلامية التي
عرفها المجتمع المصري و المجتمعات العربية ، لا سيما بعد الحروب الأمريكية
المتواصلة ضد أفغانستان ، و العراق، و تكلس وترهل الأنظمة العلمانية في
العالم العربي الموسومة بالتبعية للغرب. والحال هذه، فقد تقلصت سيطرة
"الإخوان" باضطراد على دينامية أسلمة المجتمع المصري،إذ جرى تخطيهم، من
جانب "إسلام مخفف" يتسم بتدين شخصي ولا يتحكم به هوس الشريعة ولا الدولة
الإسلامية.
الثاني ، لقد أفسحت حركة "الإخوان
المسلمين " في المجال لجيل جديد من الإصلاحيين الذي تحكمه خلفية براغماتية،
بأن يقود التحولات التي حصلت في خطاب "الإخوان المسلمين "الذين تخلوا عن
مقولة - الدولة الإسلامية –و الخلافة الراشدة- و الوحدة السياسية الجامعة
لكل الأمة الإسلامية- والتزموا بطرح برنامج لا يبعد كثيرا عن برامج
الأحزاب الوطنية الأخرى، بل والليبرالية منها على وجه الخصوص.
فالبرنامج السياسي للإخوان المسلمين
تتأكد يوما بعد يوم مفارقته - تماما- لكل ما كان يقدمونه عن "المشروع
الإسلامي". فهناك تأكيد مستمر على القبول التام والنهائي بالديمقراطية دون
أي حديث عن خصوصية حضارية أو دينية - كما كان يحدث سابقا- وهي ديمقراطية
صريحة لا تندثر في ثياب "الشورى" الإسلامية التي كانت مرتكزا للمشروع
السابق، وهي ديمقراطية أساسها الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته،
والقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كانت وحكم
الشريعة فيها مرتهن بقبول الشعب له، دونما أي حديث عن مرجعية دينية يرفضها
المواطنون أيا كانت أديانهم . ويقدر الباحثون أن "الإخوان" يمثلون بين 25
و30 في المئة من الرأي العام، في مصر، وفي غيرها من البلدان العربية..
غير أنه إلى جانب تيار "الإخوان المسلمين
"المهيمن في العالم العربي ، هناك التيار الإسلامي المستنير الذي يقوده
الفيلسوف الإسلامي راشد الغنوشي، و الذي بلور الأطروحات الإسلامية الجديدة
حول الديمقراطية وعلى صعيد الفكر السياسي.ومن أجل تبديد الشكوك المناوئة
للإسلام السياسي، ما انفك الشيخ راشد الغنوشي يؤكد انحياز حركته للمبادئ
الديمقراطية الحديثة، وأن الخيار الديمقراطي القائم على التخلي عن أي نوع
من أنواع الاحتكار للإسلام والحقيقة، أو أي نوع من أنواع الوصاية على الشعب
هو اختيار إستراتيجي لحركته، وليس اختياراً تكتيكياً ظرفياً يتم التخلي
عنه في أقرب فرصة مناسبة. وأن حركته ليست لها أي مشكلة أساسية مع العلمانية
بالمعنى الغربي، التي تضمن حرية العقل، وحرية الصحافة، وحرية الشعب في أن
يكون هو السيد الذي يصنع القانون، وتبني المجتمع المدني، وتحقق المساواة
القانونية بين الناس، وإنما هي تتناقض مع العلمانية بالمعنى السياسي المضاد
للدين، على اعتبار أن النظام التونسي لا يتمثل العلمانية وفقا للنموذج
الغربي الليبرالي إلا في تمرده على الدين وإباحيتـه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق